دعوة لإعادة بناء الأممية والحملات المناهضة للحرب
لتحميل النسخة بي دي إف اضغط هنا
هيئة تحرير «رود» ۲۰ یونیو ۲۰۲۵
المقدمة
[۱]
أشعل هجوم إسرائيل علي إيران حربًا جديدة في الشرق الأوسط، مما جعل وصف الكارثة الإقليمية أكثر صعوبة. وسط الغضب والقلق الذي يعجز اللسان عن وصفه، إذ كيف يمكن نقل أي معنى ذي قيمة في بيئة قطبية وفوضوية، تشكلها مخاوف الجماهير، والانفعالات العاطفية، والمشاعر القومية، والدعاية من الدول والإعلام السائد والقوى الرجعية؟ لذلك، يجب أن نؤكد بوضوح أن المستهدف الرئيس لهذا المقال هم اليساريون والقوى التقدمية الملتزمة بمواجهة معاناة الشعوب المضطهَدة والمستغَلة في الشرق الأوسط. نظرًا للظروف التي قطعت روابطنا الاجتماعية والسياسية المباشرة مع هذه الجماهير، لا نتوقع أن يصل هذا النص إليهم مباشرة، خاصةً أن هذه الحرب تعيق نضالهم من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وتضاعف معاناتهم وبؤسهم. ومع ذلك، نعلم أن النشطاء الملتزمين بإنهاء هذه المعاناة مستمرون. ثانيًا، يخاطب هذا النص كل الأفراد الأحرار الذين لاحظوا في العقود الأخيرة مشاركة دولهم و تواطؤها في حروب عديدة بشعور من الغضب، العجز، أو على الأقل عدم التصديق. يتجلى هذا التواطؤ، خاصة الدعم غير المشروط من الحكومات الغربية، للمذابح الإسرائيلية التي استمرت ۲۰ شهرًا في غزة، والتدمير، والإبادة الجماعية المنهج.
إذن، ما الهدف من هذا النص؟ إن هدفنا المباشر هو تعزيز موقف سياسي يرى أن مقاومة التحريض على الحرب و”نظام الحرب العالمي” جزء لا يتجزأ من تكوين مقاومة أممية ضد موجة الفاشية الجديدة العالمية الصاعدة. نرى، أن صعود الفاشية الجديدة لا يقتصر على ظهور حكومات وأحزاب وحركات يمينية متطرفة؛ بل يرتبط جوهريًا بنمو ميكانزمات استجابةً تصعد الأزمات متعددة المستويات والمنتشرة للرأسمالية المعاصرة – فهي لا تروج فقط وبشكل منهجي لـ”نزع الإنسانية” عن فئات بشرية محددة، بل وتطبع هذه العمليات. الحرب والإبادة الجماعية المستمرة منذ ۲۰ شهرًا في غزة، التي تجري أمام أعين العالم، دليل واضح على هذه الموجة الجديدة من الفاشية الجديدة التي، بمنطقها التوسعي، لا تقتصر على مجال جغرافي أو سياسي محدد. لذا، يهدف هذا النص إلى تضخيم الأصوات والمناهج الملتزمة بمواجهة هذا الاتجاه العالمي، وخلق فاعلية جماعية نشطة للمقاومة. هذه المقاومة المنبثقة من القاعدة لا تعلق أي أمل علي الدول، أو سياساتها[۲]
، أو المؤسسات الحكومية الدولية (ما يسمى “المجتمع الدولي”)، وتعترض جوهريًا على العلاقات الإمبريالية الممركزة حول الدولة التي أقامت وغذت هذا الجحيم العالمي لتغذية جذور الرأسمالية السامة.
هذا النص لا يقتصر على إدانة تحريض إسرائيل على الحرب أو تقديم مطالب عاجلة؛ فقد أصدر العديد من الرفاق بالفعل بيانات قيمة وطرحوا مطالب هامة. بدلاً من ذلك، نهدف إلى معالجة قصورٍ نراه يعيق البيانات الموثوقة والإجراءات التقدمية من كسب دعم فعال. هذا القصور التاريخي، في رأينا، هو تفكك اليسار في الشرق الأوسط (خاصة) والافتقار العام للاستراتيجيات الثورية والأممية (بأشكال منظمة). بينما تعد إدانة الحرب، ورفع المطالب العاجلة، أو التعبئة لجذب الانتباه العالمي إجراءات ضرورية كحد أدنى في مواجهة صراعات مثل حرب غزة والهجوم عللي إيران، إلا أنها ليست كافية . فشل الاستجابة لكارثة غزة يظهر الحاجة لهياكل جماعية بديلة واستراتيجيات مقاومة. لذا، الفكرة الأساسية التي ندفع بها هنا – وما يحتاجه العالم حقًا وهو يتجه نحو الانحطاط – هي تعزيز الأممية المناهضة للرأسمالية الشاملة عبر التعاون العابر للحدود ضد الحرب و”نظام الحرب العالمي”. كمجموعة من اليساريين المنفيين من الشرق الأوسط (خاص إيران)، نسعى لمشاركة فهمنا لأساسيات وتداعيات تحريض إسرائيل الأخير على الحرب مع الرفاق في الشرق الأوسط والأصدقاء الأبعد. نهدف لتوضيح سبب إدانتنا جميعًا لمشاهدة عملية الرأسمالية الانتحارية وتكثيف المعاناة والدمار عبر الشرق الأوسط والعالم بأسره دون إرساء مثل هذه الأممية البديلة. هذا النص، بينما يرسم ظروف الوضع المروع الحالي وتداعياته، يفحص أيضًا نقديًا الاستراتيجية بين جزء من القوى اليسارية الراديكالية في الشرق الأوسط (وخارجه). هذا المنهج – بالتركيز فقط على السياسات العسكرية ولا الإنسانية للحكومة الصهيونية (الإسرائيلية) وتجريدها من كوارث إقليمية أخرى – عرقل توسيع التضامن الأممي مع نضالات شعوب الشرق الأوسط. حيث حافظ هذا المنهج على هيمنته على الخطاب والممارسات اليسارية الأممية داخل حركة التضامن مع فلسطين منذ بداية حرب غزة. الآن، مع غزو إسرائيل لإيران (يليه الغزو الأمريكي) والعواقب الكارثية النانمجة عن ذلك على الشرق الأوسط، أصبح هذا المنهج أكثر بروزًا[۳]
. ضد مثل هذا المنهج، يهدف هذا النص لإثبات ضرورة وجدوى تطوير استراتيجية أممية تتمحور حول “الطريق الثالث” [۱].
۱) دوافع التحريض الإسرائيلي على الحرب والميول الحربية الإيرانية
من منظور واسع، تعمل دولتا إسرائيل وإيران، عبر تاريخيهما، من المبادئ والسياسات الا إنسانية. لكلتيهما، فإن وجود عدو خارجي موضوعي يعد وسيلة ملائمة لتفادي المساءلة أو ذريعة لقمع المقاومة الشعبية والحركات الاجتماعية. عبر المواجهات المستمرة مع مثل هذا العدو الخارجي، تدفعان بأجندتيهما الاستراتيجية، مبررتين ومُؤبِّدتين “حالة الطوارئ” إلى أجل غير مسمى. لأكثر من أربعة عقود، لعب هذان النظامان هذا الدور المنفعي المتبادل. في مراحل محددة من مواجهاتهم المستمرة، حيث تصاعدت التهديدات العسكرية إلى توترات حادة وحتى إلى صراعات عسكرية مباشرة. المخاطر والعواقب المتأصلة لهذه الحروب المتقطعة – أو التهديد بها – تجعل استراتيجيتهما “المتمركزة حول محاربة “العدو” تبدو مبررة في أعين الرأي العام. بإثارة مخاوف الجمهور والعواطف القومية، الذان يمهدان الطريق لاستمرار تطبيق هذه الاستراتيجيات، وبالتالي إدامة إعادة إنتاجها.
بينما برر الحكام الإسرائيليون وحلفاؤهم الدوليون الغزو العسكري الأخير بالخطر الموضوعي المتمثل في “القدرات النووية” الإيرانية لوجود إسرائيل ذاته، فإن جمهورية إيران الإسلامية (من الآن فصاعدًا، **الجمهورية الإسلامية**)، بالمقابل، فسرت هذا الهجوم العسكري كدليل واضح يدعم حقها في الإصرار على الحفاظ على وتوسيع استراتيجيتها النووية والصاروخية. كل نظام، باللجوء إلى تهديدات أو عدوان الطرف الآخر، يسعى لشرعنة رواية مجزأة ومشوهة لسجله التاريخي وتوجهه العام. كلما كان تهديد أو غزو الجانب المعادي أكثر فظاعة، زادت فرصة أي منهما في كسب هذه الشرعية وتوسيع جمهوره. هذان النظامان، في سعيهما لإعادة إنتاج أسس سلطتهما وتحقيق مصالح إقليمية محددة، هما جزء لا يتجزأ من الآليات التي تدفع بـ”نظام الحرب العالمي”. نشأ هذا النظام نفسه من الأزمات المستمرة والمتعددة الأطراف للرأسمالية المعاصرة. يعمل “نظام الحرب العالمي” كاستجابة للتهديدات التي تسببها الأزمات لتراكم رأس المال – مثل تصاعد المقاومة الجماهيرية وضيق الوصول للموارد والأسواق – لكنه في الوقت نفسه، نتاج لزيادة التنافس بين الكتل الإمبريالية الحالية، بينما يزيد أيضًا من حدة ذلك التنافس.
من منظور أكثر تحديدًا، مر كلا النظامين الإسرائيلي والإيراني بفترات مضطربة وهشة في السنوات الأخيرة. في غضون حوالي ۱۸ شهرًا بعد هجوم حماس في ۷ أكتوبر، تمكنت الحكومة الإسرائيلية من تنفيذ جرائمها العسكرية والتوسع الصهيوني في غزة تحت شعار “حق الدفاع عن النفس” ضد “الخطر الموضوعي لإرهاب حماس”. خلال هذه الفترة، تمتعت بدعم غير محدود من القوى العالمية، خاصة الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو. في المقابل، ظل الناس عالميًا سلبيين نسبيًا، يراقبون عملية الإبادة الجماعية والتهجير العرقي التي تقودها الدولة، متجاهلين غالبًا الاحتجاجات التي جُرِّمت وقُمعت من قبل هذه الدول الداعمة نفسها. داخل إسرائيل نفسها – رغم عدم شعبية نتنياهو – فإن “بركة الحرب”، التي غذتها دعاية الدولة عن “خطر الفلسطينيين”، محاذت الرأي العام إلى حد ما. ومع ذلك، عندما أصبح عدم اهتمام حكومة نتنياهو الجوهري بوقف إطلاق النار واضحًا، مقترنًا بتصاعد حصيلة الضحايا البشرية لهذه الحرب غير المتكافئة، وخاصة الاستخدام الصريح للجوع كسلاح حرب من منتصف مارس ۲۰۲۵، حدث تحول كبير في الرأي العام العالمي، مما جعل استمرار الدعم غير المشروط لـ”العمليات الدفاعية” الإسرائيلية أكثر صعوبة.
فقدت الحرب الكارثية التي شنتها إسرائيل تحت شعار “حق الدفاع عن النفس” فجأة الكثير من شرعيتها الدولية. زادت الأصوات المعارضة داخل المجتمعات اليهودية العالمية، وحتى داخل إسرائيل، تصاعدت المعارضة والاحتجاجات ضد استراتيجيات الحرب الحكومية. (رغم أن بعض الاستطلاعات الإحصائية تشير إلى أن جزءًا كبيرًا من المعارضة داخل إسرائيل لمواصلة الحرب لم يكن بدافع التعاطف مع الفلسطينيين بل بهدف تحرير الرهائن). في مثل هذه الظروف، لم تعد حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة قادرة على استغلال الفرصة الفريدة التي حصلت عليها من الهجوم الكارثي لحماس لدفعها حتى نهايتها – التهجير النهائي وضم غزة.
ومع ذلك، في هذا السياق الحرج، وفر تقاطع وتتابع ثلاثة عوامل لإسرائيل ذريعة أو فرصة للهروب من هذا المأزق: أولاً، رفض **الجمهورية الإسلامية** الحد من طموحاتها النووية [۲]؛ ثانيًا، الإعلان عن حصول **الجمهورية الإسلامية** على وثائق حساسة بشأن المنشآت النووية الإسرائيلية؛ وثالثًا، تبني مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) قرارًا يدين **الجمهورية الإسلامية** لعدم الامتثال. رحبت حكومة إسرائيل اليائعة الانتهازية بهذا الوضع لبدء حرب جديدة، محولة بفعالية ما يسمى بالتهديدات إلى فرص للتقدم. تجدر الإشارة إلى أنه، وفقًا لتقارير لاحقة من مصادر عسكرية إسرائيلية، كان الغزو العسكري لإيران على أجندة إسرائيل منذ فترة طويلة، وقد تم بالفعل إعداد بعض الاستعدادات لهذه الخطوة – حتى داخل إيران. المنطق وراء إضعاف الجيش الإيراني وإحداث عدم استقرار اجتماعي سياسي في تلك المنطقة كان متعدد الأوجه: ۱) سيمهد الطريق لهيمنة إسرائيل على الترتيبات الإقليمية المستقبلية؛ ۲) سيتوافق مع طموحات إسرائيل التوسعية الإقليمية، وهي مكون أساسي للاستراتيجية الصهيونية؛ و ۳) سيثبت جهاز إسرائيل السياسي العسكري كمقدم للنصر على “عدو خطير وطويل الأمد”. التوقيت فقط هو ما كان متبقياً، والذي، بعد حرب إسرائيل في غزة، وإضعاف حزب الله في لبنان، وتغيير النظام في سوريا (لضرر إيران)، بدا أنه قد حان. بهذا المعنى، كان العدوان العسكري الإسرائيلي ضد إيران، بقدر ما يتعلق بنوايا حكامها، جزءًا من خطة متعمدة من الحكومة الإسرائيلية، مبررة ومتذرعة بادعاءات لا أساس لها. ما كانت هذه الادعاءات لتحظى بقبول دولي لولا السياسات غير المسؤولة، المتهورة، واللا إنسانية للـ **الجمهورية الإسلامية** في الشرق الأوسط، ولا الدعم غير المشروط للقوى العالمية.
أما بالنسبة لإيران، فقد اقتربت **الجمهورية الإسلامية** من حافة الانهيار مع الانتفاضة الواسعة لجينا (مهسا)، ورغم قمعها الدموي، لم تتحرر بعد من بعض الرواسب العدائية لهذا الاضطراب. على مدى العقدين الماضيين، أدى تراكم الأزمات الداخلية والخارجية إلى دفع إيران بشكل متزايد نحو الاعتماد على العسكرة، والسياسات النووية والصاروخية، ومنهج جيواستراتيجي عدواني تحت شعار “تجيير التشيع سياسيًا”. تأثرت هذه العملية مؤخرًا بثلاث تحولات كبرى: ۱) بسبب العواقب الإقليمية لحرب غزة، أُضعفت خطط إيران الجيواستراتيجية في المنطقة، المعروفة بـ”محور المقاومة”، بشكل كبير – رغم أن جرائم إسرائيل الواضحة والحصانة الدولية خلال هذه الحرب زادت دون قصد من الشرعية الدعائية لسردية **الجمهورية الإسلامية** الإقليمية طويلة الأمد؛ ۲) بعد اتفاق ضمني بين أقطاب الإمبريالية، طُرِدت إيران فجأة وبشكل مهين من قاعدتها الإقليمية في سوريا، المنفذ الرئيسي للحروب بالوكالة بين القوى الإمبريالية؛ وبعد فترة وجيزة، ۳) مع عودة نفوذ ترامب، واجه نظام إيران ضغوطًا أمريكية متزايدة، مما دفعه للاقتراب من قبول صفقة نووية “مقيدة”.
في هذه الظروف، لم تكن إيران – كما أظهرت في مواجهات عسكرية سابقة قصيرة وغير مباشرة إلى حد كبير – مهتمة بالدخول في صراع عسكري شامل مع إسرائيل، خاصةً وهي تعلم أنها ستواجه الجيش الإسرائيلي إلى جانب حلفاء الولايات المتحدة والغرب. ومع ذلك، واصلت إيران لعب دورها، بناءً على أسسها اللاإنسانية وغرور حكامها، على حساب الشعب الإيراني والشرق الأوسط الأوسع. علاوة على ذلك، بعد الهجوم المفاجئ الإسرائيلي على إيران (بضوء أخضر ودعم من حلفائها الغربيين)، من المرجح أن تجد **الجمهورية الإسلامية** مساحة لـ:
- تبرير استراتيجياتها الرجعية محليًا وإقليميًا وعالميًا، مدعية الضحية والشرعية، والبحث عن فرص جديدة للتعافي والمتابعة.
- تعميق اعتمادها على القومية الإيرانية لتهميش القوى التقدمية.
- السعي بشكل أكثر عدوانية نحو العسكرة (وربما خطتها النووية).
- قمع المقاومة والاحتجاجات والحركات الاجتماعية داخل البلاد بوحشية متزايدة.
ليس من قبيل الصدفة أن ردود الفعل الأولية للـ **الجمهورية الإسلامية** على الغزو العسكري الإسرائيلي شملت: تقييد الوصول إلى الإنترنت؛ إصدار تحذيرات أمنية للنشطاء السياسيين والمدنيين ضد أي توعية نقدية؛ زيادة الضغوط الأمنية على السجناء السياسيين؛ اعتقالات استباقية للنشطاء السياسيين؛ اللجوء إلى الخطاب والرموز القومية؛ تصاعد الضغوط والاتهامات العنصرية ضد المهاجرين/اللاجئين الأفغان، مقترنة بزيادة الاعتقالات والترحيل الجماعي؛ وتضخيم فكرة الحصول على التفوق العسكري (أو ضرورة امتلاك أسلحة نووية وتوسيع تكنولوجيا الصواريخ) لحماية “الأمة” و”الوطن الترابي” [۳].
۲) التحريض على الحرب والميول الحربية في سياق الرأسمالية العالمية
صاحب مسار الرأسمالية في العقود الأخيرة سلسلة من الأزمات المكثفة والمتشابكة. حتى أولئك الذين لا يعترفون مفهوميًا بالرأسمالية كعملية تاريخية شاملة، شعروا بآثار هذه الأزمات المنتشرة بطرق مختلفة، وأصبحوا على دراية ما بطبيعة الظلم في الوضع الحالي أو قتامة آفاق المستقبل. ينبع هذا الوعي من عواقب مثل أزمة المناخ، الركود الاقتصادي وسياسات التقشف، صعود النزعات اليمينية المتطرفة، الآخرنة، والعسكرة، أو موجة الحروب والعسكرة وتأثيراتها العامة على انعدام أمن ظروف الحياة. بدقة أكثر من عامة الناس، فإن النخب الحاكمة – سواء السياسية (الدول) أو الاقتصادية (الرأسماليون) – تدرك تمامًا عمق هذه الأزمة وتداعياتها. الأهم من ذلك، أن التأثير المقيِّد لهذه الأزمات فرض شروطًا جديدة على تشكيل هياكل السلطة المهيمنة، من الدول إلى الشركات متعددة الجنسيات.
أعاد تنظيم النظام النيوليبرالي العالمي – وهو نفسه استجابة هيكلية واسعة النطاق لأزمة نموذج التراكم الفوردي السابق ولإعادة إدارة العلاقات العالمية – في أقل من ثلاثة عقود بعد ظهوره المنتصر، أصبح مصدرًا لأزمات أعمق وأوسع. بدأت مقدمات هذه الأزمات تظهر في الأزمة الاقتصادية لعام ۲۰۰۸، كما تنبأ النقد الماركسي للاقتصاد السياسي الرأسمالي. نتيجة هامة أخرى لهذه المرحلة الجديدة من الأزمة هي تصاعد التنافس والصراعات بين الإمبرياليات. كان هذا التصاعد أولاً واضحًا في تصاعد التنافس والعداء بين روسيا والغرب، خاصة في الحروب بالوكالة عبر العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان. أصبح أكثر ملموسية مع الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، وأخيرًا، مع تنامي التنافسات الهيمنية بين الصين والولايات المتحدة (وحلفائها الغربيين)، أصبح حقيقة واضحة ومحددة. اندلعت الحرب المروعة التي بدأتها إسرائيل في غزة في هذا الإطار التاريخي واستمرت دون قيد أو شرط وبلا سيطرة. ومع ذلك، فإن انتشار الحروب ونمو العسكرة والتحريض على الحرب ليسا مجرد مظاهر لتصاعد الصراعات بين الإمبرياليات. بدلاً من ذلك، فإن الوظيفة الرئيسية للحروب هي إعادة تنظيم النظام العالمي بطريقة تتحقق، جنبًا إلى جنب مع السعي “الناجح” لتصعيد الصراعات الهيمنية الحتمية، متطلبات تراكم رأس المال وسط الأزمات المستمرة. يتحقق هذا التحقيق بأربع طرق رئيسية:
- توجيه المزيد والمزيد من البنى التحتية وموارد الاقتصادات الوطنية نحو العسكرة، المرتبطة بالبنى التحتية والاستثمارات المتراكمة خلال الحرب الباردة والمرحلة اللاحقة من “الحرب على الإرهاب”. يهدف هذا التوجه، الذي شكل بشكل كبير هيكل الاقتصادات الوطنية داخل مراكز الرأسمالية، إلى تعزيز “القدرة الوطنية” لمواجهة النضالات الحتمية المتصاعدة للهيمنة العالمية والوصول إلى الموارد (الطبيعية والأسواق) التي أصبحت نادرة بشكل متزايد في أزمات ما بعد العولمة.
- توسيع استراتيجية “التدمير الخلاق” من خلال التدمير العسكري للبنى التحتية الحضرية والصناعية. تخلق هذه الآلية، بينما تستهلك البضائع العسكرية المتراكمة، الظروف للاستثمارات الاقتصادية المستقبلية وتكثف سباقات التسلح الإقليمية، مما يزيد الطلب العالمي على الأسلحة.
- تحديث التكنولوجيا العسكرية من خلال الاختبار العملي للأسلحة الحالية وأحدث التقنيات العسكرية.
- تعزيز قدرات القوى العالمية والسلطات الإقليمية الصغرى (كمقاولين من الباطن للقوى الإمبريالية) على قمع المقاومة المتزايدة للجماهير المضطهَدة والمستغَلة. وذلك لأن توسع العسكرة من قبل الدول يزيد من هيمنتها القمعية على حركات السكان المضطهدين – جماهير هائلة غير متجانسة تتحمل، إلى جانب تزايد إفقارها بسبب التهجير النيوليبرالي، العبء الرئيسي لأزمات الرأسمالية وتقاوم وتحتج بأشكال ومستويات مختلفة. لم يشهد عالم ما بعد أزمة ۲۰۰۸ تقدمًا عدوانيًا للرأسمالية وتحولها إلى أشكال سلطوية فحسب، بل شهد أيضًا تصاعدًا في الاحتجاجات الجماهيرية: من الربيع العربي، واحتلوا وول ستريت، وحركة الغاضبين في إسبانيا، وسيريزا في اليونان، والثورة السودانية، وانتفاضات التقشف ۲۰۱۹ في الجنوب العالمي، وحركة السترات الصفراء، وسلسلة من الانتفاضات الجماهيرية في السودان وإيران، توجت بانتفاضة “المرأة، الحياة، الحرية”.
ما تم وصفه أعلاه هو ملخص لأساسيات وخصائص “نظام الحرب العالمي”. في مثل هذا العالم، فإن زيادة الحروب والعسكرة والتحريض على الحرب ليست صدفة، بل هي استجابة هيكلية للنظام الحاكم للأزمات التي تهدد إعادة إنتاجه. علاوة على ذلك، فإن هذا الشكل من الإدارة العدوانية للأزمات – شكل من “رأسمالية الكوارث” – يوفر أيضًا القدرات السائلة الضرورية لمراكز القوة العالمية للتغلب على عقائد غير مقصودة أو أدوات سابقة أصبحت حواجز. يعتمد مثل هذه السيولة على استعداد أقطاب الإمبريالية لتحالفات حتمية، كما يتجلى في تحولات السلطة في سوريا.
نشأ “الضوء الأخضر” الذي منحته القوى العالمية لحكومة نتنياهو لغزو إيران من الجهود العنيدة لحكام إيران لتأمين ضمانات قوية للاستقرار السياسي، رغم الظروف المتغيرة والسيولة للنظام العالمي. كان “غرور الوهم” الإيراني واسعًا لدرجة أنه، على الرغم من الدور الهيكلي لإيران في دفع النظام الإمبريالي المفروض في الشرق الأوسط وتعزيز نظام الحرب العالمي، أصبح نظامها الحالي، بطموحاته النووية والصاروخية، عقبة أمام التشكيل الحالي للقوى الإمبريالية في هذه المنطقة. كان جوهر أوهام الحكام الإيرانيين يكمن في سوء تقديرين:
- أولاً، نظرتهم لإمكانية الحفاظ على علاقة “نصف حرب” مع إسرائيل لفترة طويلة. اعتمدوا لأكثر من أربعة عقود على استقرار مثل هذه العلاقة كأداة سياسية أيديولوجية، بينما يروجون في الوقت نفسه لتدمير وجود إسرائيل. تجاهل هذا سوء التقدير أن إسرائيل قد تحول حدود هذا الصراع المستقر طويل الأمد بشكل أحادي لتحقيق مكاسبها في نقطة تحول.
- ثانيًا، الاعتقاد الخاطئ بأنه يمكنهم دائمًا الاعتماد على الصراع المستمر بين مراكز الإمبريالية الغربية والشرقية، والمناورة حول هذا الانقسام مع الانحياز استراتيجيًا لقوى الإمبريالية الشرقية. تجاهل هذا إمكانية تحالف القوى الكبرى والتخلي عن الشركاء الإقليميين بناءً على احتياجات استراتيجية مختلفة وديناميكية. كان الإهمال النسبي للـ **الجمهورية الإسلامية** من قبل روسيا أثناء تحولات السلطة في سوريا إدراكًا متأخرًا ولكنه واعٍ إلى حد ما لهذا.
وبالتالي، تخدم هذه الحرب – بشكل ملخص وعلى المستوى الكلي – وظيفتين هيكليتين أساسيتين ووظيفة ثالثة طارئة:
- المساعدة في إعادة إنتاج دورات تراكم رأس المال العالمية من خلال العسكرة.
- إعادة تشكيل الظروف في الشرق الأوسط وإيران لتعطيل المقاومة (الحركات الاجتماعية) والحد من إمكانات نموها الذاتي.
- استراتيجية قابلة للتكيف للقضاء على (أو على الأقل، تعديل) الطموحات المفرطة للـ **الجمهورية الإسلامية** كعقبة طارئة.
ربما أكد فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المحافظ، عن غير قصد هذه الوظيفة الثالثة بشكل أوضح من أي شخص آخر عندما صرح [۴]: إسرائيل تنفذ الآن هذه الحرب القذرة نيابة عنا*”. هنا، اعترف ميرتس ضمنيًا بأن إسرائيل قاعدة للإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط. نقطة تكميلية هامة لا يستطيع فريدريش ميرتس أو لا يرغب في التعبير عنها هي: لعدة عقود، كانت حكومات إسرائيل وإيران تشن “حروبًا قذرة” ضد الفلسطينيين والشعب الإيراني (وشعوب الشرق الأوسط) نيابة عن جميع تلك القوى الإمبريالية.
۳) تداعيات وعواقب غزو إسرائيل لإيران
الحرب، بشكل عام، تقتل وتدمر، ولكنها في الوقت نفسه تقوض أسس الحياة البشرية ذاتها، من البيئة والموارد الطبيعية، إلى البنية التحتية الحضرية والصناعية، والهياكل الاجتماعية الأساسية اللازمة للنضالات الاجتماعية السياسية والمقاومة ضد النظام القائم. إلى جانب المجازر المباشرة والتصعيد الفوري للفقر والحرمان الواسع النطاق، ستؤدي الحرب – المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبطريركية – إلى تفاقم الوضع العام للمرأة* في نواحٍ كثيرة. الأهم من الناحية السياسية، أن الحرب ترهن مستقبل الشعوب بتقليل قدرتها (وفرصها) في تحديد مصيرها. هذه التهديدات واضحة بشكل خاص في الحرب الحالية التي بدأتها إسرائيل في إيران، مستغلة الميول الحربية للـ **الجمهورية الإسلامية** وبدعم من القوى العالمية، حيث أن طبيعة **الجمهورية الإسلامية** الاستبدادية والرجعية والبطريركية ستعزز هذه الاتجاهات الكارثية. من بينها، يركز هذا القسم على الاتجاهات/الآليات التي تقمع أو تقلل من الفاعلية السياسية (الذاتية) للمضطهدين في إيران.
لم تكتفِ **الجمهورية الإسلامية** بتسهيل الظروف التي سمحت للنظام الإسرائيلي بفرض هذه الحرب الإمبريالية على شعوب إيران بعواقب مباشرة مروعة [۵]، بل حطمت الحرب أيضًا تطور الفاعلية السياسية بين المضطهدين الإيرانيين، التي تشكلت عبر عقود من النضال المستمر المكلف تحت القمع الحكومي المرعب. لقد جعلت الحرب فضاء الحياة للشعوب في الشرق الأوسط أكثر انعدامًا للأمن، وعدم استقرار، وهشاشة من أي وقت مضى، ممهدةً بذلك الطريق لنمو النزعات والسياسات الرجعية. علاوة على ذلك، من خلال دفع الآلة العسكرية، جعلت هذه المنطقة المتقلبة أكثر عرضة من قبل لصعود أنظمة قائمة على العسكرة والقمع السياسي الأمني. وبالتالي، فإن وظيفة أساسية لهذه الحرب هي تعزيز الآليات التي تعيد بناء واستقرار سلطة الدولة على الجماهير المضطهَدة أثناء المواجهات الحتمية، بغض النظر عن كيفية تغير نظام إيران أو حكامها المستقبليين. من هذا المنظور، الحرب الحالية، بكل تدميرها الإنساني والبيئي والبنى التحتية، هي أحدث مثال على السياسات الإمبريالية في الشرق الأوسط والجنوب العالمي، مستمرةً في الاستراتيجية طويلة الأمد لإضعاف فاعلية الشعوب المضطهَدة. نظرًا لأن أساس أي أمل مادي لخلاص وتحرير شعوب الشرق الأوسط يكمن في إحياء الفاعلية التقدمية والثورية بين المضطهدين والمهمشين، يجب علينا تحليل هذه المسألة بمزيد من التفصيل.
أ) الأسس الحديثة المشكِّلة للعقلية السياسية للشعب الإيراني
يتطلب فهم الآثار المأساوية للحرب الحالية على تراجع وقمع فاعلية المضطهدين في إيران نظرة على خلفيتها التاريخية، معالجة نقطتين مترابطتين:
- على الرغم من أن تداعيات هذه الحرب تزيد بشكل كبير من آليات قمع فاعلية المضطهدين، إلا أن هذا القمع هو جزء من عملية أوسع متجذرة في أسس أقدم للقمع الحكومي والقمع السياسي من قبل النظام الاستبدادي.
- الحديث عن قمع فاعلية المضطهدين (بسبب هذه الحرب) لا يعني وجود فاعلية جماعية متجانسة للمضطهدين (بتوجه تقدمي) في مواجهاتهم مع نظام الحكم المنحل في إيران.
بدلاً من ذلك، تشمل عواقب الوضع الحربي (وسيناريوهات السلطة ما بعد الحرب(:
- القمع المباشر وإضعاف القوى التقدمية
- توسع مناخ الخوف وانعدام الأمن العام، مما يعزز نهجًا رد الفعل وقدرية.
- هيمنة هذا الجو، مما يؤدي إلى ازدواجية تستقطب بشكل حاد الفضاء الفكري المجتمعي والعقلية السياسية، محددة أو عاقبة إمكانية تشكل الفاعلية السياسية التقدمية.
في رأينا، بينما سيكون القمع المباشر (وربما المجازر) للقوى الثورية والتقدمية من عواقب هذه الحرب، فإن الوظيفة القمعية الرئيسية للبيئة الحربية (وما بعد الحرب) هي تعزيز الظروف التي تدفع عمليات تشكل الفاعلية السياسية نحو مسارات رجعية – انحطاط الفاعلية الجماعية. تتطلب هذه النقطة مزيدًا من التوضيح فيما يتعلق بتاريخ هذه العملية الانحطاطية الحديثة وآفاقها المستقبلية.
حكام **الجمهورية الإسلامية**، الذين واجهوا لوقت طويل تناقضات وأزمات متزايدة، قمعوا بوحشية مطالب الشعب والانتفاضات الجماهيرية بدلاً من السعي لإصلاحات سياسية واجتماعية اقتصادية. بينما نما استغلالهم وتملكهم والفساد الهيكلي بشكل لا يقاس، واصلوا بشكل مستمر استراتيجيات مثل توسيع العسكرة، وسياسات تطوير النووي والصواريخ، وتدخلات إقليمية عدوانية تحت غطاء “مناهضة الإمبريالية” و”مناهضة الصهيونية”. أدت هذه العملية، منذ عام ۲۰۱۷ فصاعدًا، إلى العديد من الانتفاضات الجماهيرية، قابل كل منها قمع دموي. كانت أحدثها، انتفاضة جينا، ملحوظة لحجمها، نطاقها الجغرافي، مدتها، أملها في التغيير، وشدة القمع الحكومي، متجاوزة الاحتجاجات السابقة.
أدى قمع وتراجع هذه الانتفاضات الجماهيرية، خاصة انتفاضة جينا، إلى تغذية اليأس والسلبية، مما عزز بدوره تأثير الخطابات الرجعية مثل الملكية، التفوق القومي، والشوفينية بين الجماهير المعارضة والساخطة. في غياب القوى والإعلام التقدمي (أو ضعفهم وتشتتهم المفروض تاريخيًا)، تم تغذية مثل هذه النزعات والخطابات باستمرار من قبل وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية للقوى الغربية وقنوات التلفزيون على مدار الساعة المرتبطة بالمملكة العربية السعودية وإسرائيل (مثل “مان-أو-تو” و”إيران إنترناشونال”). استجابت هذه الوسائط الإعلامية القوية بشكل منهجي ومستمر للمعاناة الناجمة عن الهزيمة السياسية واليأس بأوهام الخلاص الخارجي، موجهة غضب وكره الجماهير نحو فكرة “عدو عدوي هو صديقي”. أصبح تأثير هذه التيارات أقوى بشكل ملحوظ، خاصة أثناء تراجع انتفاضة جينا – التي حجبت مؤقتًا بسبب ذروتها الملهمة. لم يسرعوا فقط من تراجع الزخم الثوري، الذي خضع لقمع حكومي شديد، بل أصبحوا أيضًا، بعد الهزيمة النهائية للانتفاضة، خطابات مهيمنة داخل الفضاء السياسي المعارض (داخليًا وفي الشتات). خلال هذه الفترة، أصبحت العلاقة بين النزعات الملكية والقومية جزئيًا للتفوق الإيراني والمشاعر المؤيدة لإسرائيل (تمجيد سلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين) أكثر وضوحًا في الخطاب العام. تفاقم هذا بدعم الملكيين للعقوبات الاقتصادية الغربية، حيث أعربوا صراحة عن حماسهم لغزو أمريكي أو إسرائيلي محتمل لإيران “لتحرير” الشعب الإيراني [۶].
ردًا على هذا الموقف الرجعي، ظهر خطاب سياسي آخر، يؤكد على العواقب التدميرية للعقوبات الاقتصادية على إيران، والظلم الواضح المرتبط بالوضع الفلسطيني البائس، وطغيان إسرائيل غير المنضبط. قدم هذا المنهج دفاعًا كاملاً أو تكتيكيًا عن الاستراتيجية الجيوسياسية لـ **الجمهورية الإسلامية** وتوسعها العسكري (السياسات النووية والصاروخية). ومع ذلك، احتوى هذا المنهج على طبقات غير متجانسة: من مؤيدي ولاية الفقيه (منصب المرشد الأعلى للـ **الجمهورية الإسلامية**) المخلصين أو الموالين الآخرين للنظام – الذين سعوا، تحت عقيدة “محور المقاومة”، إلى أقل من تدمير إسرائيل – إلى اليساريين المعتدلين وحتى الراديكاليين، الذين دافعوا بحماس عن السياسات الجيوسياسية والعسكرية لـ **الجمهورية الإسلامية**، سواء من مواقف قومية أو مناهضة للإمبريالية (مع تداخلات). نظروا إلى الاستراتيجيات العسكرية والنووية لـ **الجمهورية الإسلامية** كاستجابات ضرورية للعدوان الإمبريالي والإسرائيلي في الشرق الأوسط. اعتبر البعض هذه السياسات الحكومية “شرًا ضروريًا أدنى”، مساوين النقد الموجه لها بإهمال المصالح الوطنية أو التأثر بالخطاب الإمبريالي. سياسيًا، إما دافعوا مباشرة أو بشكل غير مباشر عن **الجمهورية الإسلامية**، أو بينما أيدوا بشكل ضمني أو غامض الحركات الاجتماعية، أعطوا الأولوية لمعارضة العلاقات الإمبريالية في المنطقة، قائلين إن المشاكل السياسية مع حكام إيران لا ينبغي أن تبرر تشويه أو تقويض الاستراتيجيات الجيوسياسية والمناهضة للإمبريالية لإيران.
حدت هذه التناقضات من مساحة قوى المعارضة التقدمية، الضعيفة والمجزأة بالفعل بسبب القمع المستمر، إرث المجازر السياسية، والانتشار الهيمني للخطاب والسياسات النيوليبرالية. على سبيل المثال، عارض اليساريون المؤيدون لـ”محور المقاومة”، المدعومون بالدعاية الحكومية، خصومهم اليساريين باتهامهم بأنهم
“موالون لحلف الناتو” (“موالون للإمبريالية”)، أو بتسميتهم بـ”اليساريين الاستعماريين”، “مغيري الأنظمة”، أو “اليسار الليبرالي”. اعتبروا الاحتجاجات الجماهيرية مناورة من قبل القوى الإمبريالية، أو استخدموا بعض الشعارات والمشاعر الموالية للملكية لتشويه سمعة هذه الاحتجاجات وشرعنة موقفهم السياسي. تصاعدت هذه التوترات والصراعات بعد الانهيار النهائي لانتفاضة جينا، خاصة مع الحرب الكارثية لإسرائيل في غزة، مما غذى الاستقطاب والاضطراب السياسي.
ب) تأثير قضية إيران-إسرائيل على الفضاء الفكري السياسي الإيراني
بعد تأسيس وتوطيد سلطتها المضادة للثورة كدولة، صاغت **الجمهورية الإسلامية** عقيدتها السياسية الأيديولوجية على أساس التشيع، *مناهضة الاستكبار* (معارضة الهيمنة الغربية)، ومناهضة الصهيونية. لعقود، شهد المضطهدون الإيرانيون نفس الجهاز الذي يستجيب لمطالبهم الأساسية بالقمع والسجن والإعدامات يرفع في الوقت نفسه راية الدفاع عن الشعب الفلسطيني والعداء غير المهادن تجاه الدول الغربية والإسرائيلية، مستشهدًا بآيات من القرآن والتعاليم الإسلامية.
نظرًا لأن جميع المعارضة والاحتجاجات والانتفاضات الجماهيرية في العقود الأخيرة فشلت في تغيير الوضع القمعي الحاكم لإيران، تم تسهيل اختراق اجتماعي أوسع لبعض النزعات الأيديولوجية والسياسية – نزعات متجذرة في رفض أسس العقيدة الحكومية. وتشمل هذه:
- العلمانية وحتى معاداة الدين (معارضة دولة دينية(
- القومية الإحيائية (معارضة لتشويه الدولة لمثل هذا الشعور لصالح الإسلام).
- التعلق بالنماذج الغربية للحياة الاجتماعية السياسية والثقافية (رد فعل على عداء الدولة للغرب وجميع القيود المفروضة على نمط الحياة من قبل **الجمهورية الإسلامية**.)
- الدفاع البطولي عن “السوق الحرة” (كبديل للاقتصاد الإيراني المعيب والمضطرب، والذي يُفهم إلى حد كبير على أنه اقتصاد دولة.)
- المشاعر/المواقف المؤيدة لإسرائيل (بسبب الخطاب الرسمي المناهض لإسرائيل وتبرير الدولة لتكاليف تدخلاتها الإقليمية المتوافقة مع استراتيجية “محور المقاومة”).
في هذا السياق، اكتسبت الخطابات التي تروج لمعاداة الشيوعية، ومعاداة اليسار، وبشكل عام معاداة الثورة تأثيرًا واسعًا في إيران. بدأت هذه الخطابات في البداية مع فصيل إصلاحي داخل هيكل سلطة **الجمهورية الإسلامية**، بهدف دفع المشروع النيوليبرالي وتحييد المقاومة الاجتماعية من خلال الترويج للأيديولوجية النيوليبرالية. أطلقوا حملة ضخمة ضد الأفكار والنزعات اليسارية، ثم شجبوا لاحقًا حتى ثورة ۱۹۷۹ (ومفهوم الثورة نفسه)، معتبرين أنها تغذت من تعاليم ماركسية ومناهضة للإمبريالية. بعد انسحاب الإصلاحيين المنبوذين من مركز السلطة، استمروا لسنوات عديدة في هوامش جهاز الدولة، مستفيدين من نفوذهم السياسي ومواردهم لتوسيع هذه الخطابات (معاداة اليسار ومعاداة الثورة). بخلط مثل هذه الخطابات مع القومية، وضعوا الأساس لظهور سرديات ملكية وعظمة إيرانية؛ أصبح العديد من الإصلاحيين السابقين نظريين ونشطاء ودعاة للملكية.
مع توسع نفوذ الأوساط الملكية، تبنى الملكيون، إلى جانب راياتهم الأخرى (العنصرية ضد القوميات المضطهَدة داخل إيران، كراهية الأجانب والعداء للمهاجرين الأفغان، الإسلاموفوبيا ومعاداة العرب، الموقف المؤيد لإسرائيل)، راية معاداة اليسار. كان عنادهم في معاداة اليسار متجذرًا في البداية في معارضتهم الأساسية للثورة المناهضة للملكية عام ۱۹۷۹ (باعتبارها “أساس جميع مشاكل إيران”). ومع ذلك، كان هذا العناد أيضًا منهجًا رد فعل على خطاب الدولة لـ”محور المقاومة”، الذي استخدم جزئيًا لغة سياسية يسارية للدفاع عن ادعاءات/سرديات الجمهورية الإسلامية (مثل تحرير فلسطين)، أو دعم منظمات إسلامية أصولية مثل حماس وحزب الله كقوى مقاومة. علاوة على ذلك، أعربت قوى المعارضة اليسارية في الغالب عن تعاطفها وتضامنها مع الفلسطينيين، وعارضت بدرجات متفاوتة السياسات الصهيونية والوظائف الإمبريالية للحكومة الإسرائيلية. وفقًا لذلك، أصبح نمو خطاب معاداة اليسار في إيران متشابكًا مع صعود المشاعر المؤيدة لإسرائيل.
مع تصاعد الدعاية المناهضة لإسرائيل من قبل **الجمهورية الإسلامية** وأصبحت التكاليف العامة لاستراتيجية “محور المقاومة” – مثل العقوبات الاقتصادية – أثقل على الشعب الإيراني [۷]، اكتسب الخطاب المؤيد لإسرائيل أيضًا المزيد من الجاذبية. خاصةً، نظرًا للفشل المتكرر والمكلف للاحتجاجات الجماهيرية، بدت فكرة الإطاحة بـ **الجمهورية الإسلامية** بالقوة الشعبية مستحيلة بشكل متزايد، بينما واصلت القنوات التلفزيونية الناطقة بالفارسية المؤيدة لإسرائيل نشر سردياتها الأيديولوجية على مدار الساعة في هذا الجو العام من اليأس.
على هذه الخلفية التاريخية، بدأت حرب إسرائيل في غزة؛ صراع كانت **الجمهورية الإسلامية** متورطة فيه أيضًا من خلال توجيهها لـ”محور المقاومة” في الاضطرابات الإقليمية. خلال هذه الحرب، لم تتكثف فقط خطابات العدوان والتهديدات المتبادلة، بل وقعت مواجهات عسكرية متعددة، أعادت مرة أخرى قضية “إيران-إسرائيل” والقضية الفلسطينية إلى واجهة الخطاب العام. عند هذه النقطة، بالتزامن مع الآثار النفسية للهزيمة النهائية لانتفاضة جينا، استهدفت الدعاية الإسرائيلية ووسائل الإعلام الموالية لها الرأي العام الإيراني بشكل أكثر انفتاحًا ومباشرة من قبل. على سبيل المثال، خاطب نتنياهو الشعب الإيراني مرارًا، ممتدحًا نضالاتهم ضد **الجمهورية الإسلامية** وواعدًا “بتحرير إيران” للساخطين واليائسين.
على الجانب الآخر، حشد الملكيون والتيارات السياسية المرتبطة بهم – بشكل أكثر انفتاحًا من أي وقت مضى – دعماً كاملاً لسياسات إسرائيل، مبررين ومشوهين جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، مع ترحيب جزء كبير من مؤيديهم/دعاتهم النشطين بأفعال الحكومة الإسرائيلية الإبادة الجماعية والعرقية بسرديات إسلاموفوبية وعربوفوبية. على الرغم من كل هذا، كان الهدف الأساسي الذي يربط مؤيدي الملكية بإسرائيل (إلى حد الهوس) هو معارضتهم المشتركة للـ **الجمهورية الإسلامية**، بناءً على التأثير الموسع لنموذج “عدو عدوي هو صديقي”. علاوة على ذلك، ترتبط هذه القرابة أيضًا بمنظورين استراتيجيين:
- القوة العسكرية العالية لإسرائيل وإمكانية استخدامها الملموسة ضد **الجمهورية الإسلامية** وسط تصاعد التوترات والتهديدات العسكرية.
- قرب الحكام الإسرائيليين من السلطات الأمريكية كحلفاء استراتيجيين، مما قد يمهد الطريق للملكيين للاستيلاء على السلطة بعد سقوط **الجمهورية الإسلامية**. [۸]
بناءً على ذلك، يبدو أنه في حسابات الحكام الأمريكيين والإسرائيليين بشأن جدوى غزو عسكري لإيران، لم يلعب فقط الضعف الموجود مسبقًا للقوات العسكرية بالوكالة التابعة للـ **الجمهورية الإسلامية** دورًا، بل أيضًا رد الفعل الترحيبي المحتمل للجمهور لمثل هذا الغزو من قبل إسرائيل. هذا صحيح خاصةً بالنظر إلى أن المناخ العقلي والنفسي للمجتمع الإيراني تأثر جزئيًا بنموذج فكرة “عدو عدوي هو صديقي” (على الرغم من أن العواقب الكارثية لهذا الغزو يمكن أن تعكس هذا الموقف بشكل ملحوظ). من ناحية أخرى، يتوافق خطاب الملكية بشكل واضح مع النهج المفضل للقوى الغربية لإعادة تنظيم أو إعادة بناء السلطة السياسية في إيران. الآن، مع الدعم الكامل والتفويض من هذه القوى، كان لدى إسرائيل أخيرًا الفرصة لتوجيه ضربة حاسمة لمنافستها الإقليمية طويلة الأمد – **الجمهورية الإسلامية** – إذا، كما تشير الأدلة، اقتربت **الجمهورية الإسلامية** من الانهيار، يمكن للملكية أن تصبح مرشحًا مناسبًا لنقل السلطة من أعلى إلى أسفل (تغيير النظام)، على الأقل في مرحلتها الأولية. وذلك لأنهم يمثلون بالفعل العديد من العوامل الضرورية لأداء مثل هذا الدور: التوجه المؤيد للغرب، المدافع الشرس عن النيوليبرالية، المؤيد لإسرائيل (المؤيد للصهيونية)، معاداة اليسار، و”مرن” للغاية في مفاوضات السلطة.
ج) تأثير قضية إيران-إسرائيل (وإيران-فلسطين) على معارضة اليسار الإيراني
داخل يسار المعارضة الإيراني، بينما كان التضامن مع الفلسطينيين ومعارضة الإبادة الجماعية الصهيونية والتهجير العرقي فيما يتعلق بحرب غزة مقبولًا عمومًا كضرورة، أصبحت طريقة التعبير عن تضامن الاحتجاج هذا فيما يتعلق بالنضال ضد **الجمهورية الإسلامية** موقعًا للارتباك والصراع الأيديولوجي والسياسي. عالميًا، أكد المنهج الخطابي والسياسي السائد في حركات التضامن الأممية مع المقاومة الفلسطينية على دعم المقاومة الفلسطينية ومقاومة آلة القتل والإبادة الجماعية مع تهميش الدور السياسي لحماس والاعتراف بها ضمنيًا أو صراحةً كممثل للمقاومة الفلسطينية. في المقابل، واجه يسار المعارضة الإيراني معضلة في الاختيار بين المناهج المتضاربة التالية:
- إما وضع القرابة السياسية الأيديولوجية بين حماس (والجهاد الإسلامي) و **الجمهورية الإسلامية** جانبًا، وتجاهل عمليًا معارضتهم لـ **الجمهورية الإسلامية** في فعل التضامن مع فلسطين (نظرًا لأنه، وفقًا لمنظور التضامن السائد، يجب دعم حماس دون قيد أو شرط باعتبارها القوة الأساسية للمقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل.).
- أو اتباع منهج أكثر تعقيدًا، وإن كان أقل اعترافًا به، للتضامن مع فلسطين (بسبب دعم أقل من التيارات اليسارية الفلسطينية والشرق أوسطية).
- أو تبني موقف سلبي، غامض، وغير فعال.
بقيت هذه المعضلة السياسية – التي تسبب مواجهات وتوترات واضحة بين القوى اليسارية الإيرانية (وإن لم تقتصر على إيران) – دون حل، خاصةً بسبب جوهرها النظري الاستراتيجي القابل للنقاش [۹]. زاد غزو إسرائيل لإيران وبدء هذه الحرب الإمبريالية من تأجيج هذه المعضلة السياسية والفوضى السياسية المقابلة بين اليساريين في إيران والشرق الأوسط من خلال تكثيف الصراعات والاستقطابات القائمة حول ازدواجيات معينة. على سبيل المثال، يرى بعض يسار إيران الغزو العسكري الإسرائيلي كتجاوز للخط الأحمر الذي يجب معارضته بغض النظر عن الطبيعة السياسية لـ **الجمهورية الإسلامية** [۱۰]. هذا الموقف، القائم على فهم محدد لمناهضة الإمبريالية (و/أو مناهضة الصهيونية)، يؤكد في النهاية على معارضة أو مقاومة إسرائيل (كدولة حربية) مع التقليل من دور **الجمهورية الإسلامية** في تسهيل هذه الحرب. آخرون، من نفس نقطة البداية، يستدعون “حق الدفاع عن النفس” للنظام الإيراني، يدعمون “ثبات” إيران، أو حتى يروجون للمشاركة في “حرب وطنية”.
بشكل عام، في الاضطراب الحالي لبيئة الحرب، تميل الخطابات السائدة بين يسار المعارضة الإيراني إلى التأكيد على تفسير معين لمناهضة الإمبريالية – يركز على العدوان العسكري والدور المباشر للمعتدي (إسرائيل) – ويدعم ردًا حاسمًا راديكاليًا ضد التشويهات السياسية والإعلامية للسرديات السائدة. على الرغم من أنهم يربطون بشكل صحيح غزو إسرائيل (والإبادة الجماعية في غزة) بضرورة معارضة الهيمنة الإسرائيلية ومقاومتها، إلا أنهم يميلون إلى تجريد الهيمنة والعدوان الإسرائيلي من سياقات أخرى في الشرق الأوسط، مثل الدور المحدد الذي تلعبه النظام الإسلامي الإيراني. غالبًا ما تُتهم الآراء والمناهج التي تأخذ أيضًا في الاعتبار الدور التدميري للـ **الجمهورية الإسلامية** لتأطير بداية هذه الحرب بتهميش أو تبييض جرائم الحرب الإسرائيلية ومساواة أدوار الدولتين. هذا المنهج السائد يردد أو يتبع نمطًا أوسع داخل خطاب التضامن الأممي السائد مع فلسطين، الذي يعتبر “التضامن الحقيقي” هو تجنب انتقاد عملية حماس في ۷ أكتوبر أو التشكيك في دور المقاومة الفعلي لحماس. بعبارة أخرى، قامت الطبيعة الإجرامية للحرب الأخيرة بتنشيط استقطاب موجود مسبقًا في اليسار الإيراني (وربما الأوسع في الشرق الأوسط)، يميل نحو تبني رد أخلاقي راديكالي حازم ضد التشويهات السياسية والإعلامية للسرديات السائدة.
أكثر أو أقل في هذا السياق، ينظر المؤيدون اليساريون لـ”محور المقاومة” إلى عدوان إسرائيل كمبرر لموقفهم السياسي، أي شرعية الاستراتيجيات الجيوسياسية الإيرانية. لقد عزز هذا التأكيد الذاتي بشكل ملحوظ جهودهم الدعائية. الجو المستقطب والمتأجج، خاصة الآن، يجعل خطاب الدولة الداعي إلى “الوحدة الوطنية” ضد “عدو أجنبي” (وتعليق النضال ضد النظام مؤقتًا) أكثر عرضة لجذب الأتباع – خاصةً بالنظر إلى الوعي الواسع بالعواقب الكارثية للتدخلات العسكرية الإمبريالية في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا والسودان وما بعدها. تشير الأدلة إلى أن بعض شرائح اليسار الإيراني تميل بشكل متزايد نحو هذا الاتجاه.
على الجانب الآخر، تتبنى أجزاء من المعارضة الاشتراكية الديمقراطية الإيرانية (على غرار بعض مجموعات المعارضة الليبرالية) موقفًا مناهضًا للحرب قائمًا على حقوق الإنسان، ينتقد غزو إسرائيل بدرجات متفاوتة من الشدة، ويعتمد على الضغط الدبلوماسي الدولي لتحقيق وقف إطلاق النار ونزع السلاح النووي. نتيجة لذلك، زاد الغزو الإسرائيلي من حدة الصراعات الفصيلية داخل معارضة اليسار الإيراني، مما أضعف الفاعلية اليسارية الفعالة والتعبئة من أجل التضامن المناهض للحرب والاستبداد والإمبريالية. وبالتالي، حتى هذا الحدث المروع لا يبدو قادرًا على تحفيز زيادة كبيرة في دور اليسار الثوري الإيراني في تعزيز مسارات نحو تعزيز الفاعلية الجماعية التقدمية في الساحة السياسية الإيرانية – على الرغم من أن ديناميكيات التطورات الجارية قد تفتح يومًا ما إمكانيات كامنة يمكن أن تغير هذه المسارات [۱۱].
۴) التحديات الفكرية في إعادة بناء الأممية المتعلقة بالشرق الأوسط
حتى لو خمدت نيران الحرب الحالية، التي أشعلها الغزو العسكري الإسرائيلي، قريبًا، يظل تأثيرها على مستقبل الشرق الأوسط خطيرًا بعمق. هذا الصراع، بغض النظر عن عواقبه المباشرة، يطبع الحرب وتعليق الأعراف الدولية، مثل الهجمات العسكرية على المنشآت النووية. عند النظر إليه إلى جانب الحرب المستمرة والإبادة الجماعية في غزة، فإنه يكشف عن مستوى غير مسبوق من نزع الإنسانية، يعكس صعود الفاشية الجديدة العالمية. يزرع هذا المسار حتمًا بذور توترات مستقبلية مروعة، بشكل أساسي من خلال تسريع انجراف المنطقة نحو العسكرة، وبالتالي، الاستبداد.
ثانيًا، الآثار المباشرة لهذه الحرب، بما في ذلك قمع القوى التقدمية والحركات والاحتجاجات داخل إيران، تخلق فراغًا سياسيًا. هذا الفراغ يعرض لخبر ظهور وتقوية بدائل رجعية، مثل إعادة هيكلة السلطة السياسية الإمبريالية من أعلى إلى أسفل، أو تفاقم الكسور الاجتماعية السياسية الحالية بسبب تصاعد الأزمات الاجتماعية وانعدام الأمن الواسع النطاق. يمكن أن تؤدي مثل هذه الظروف إلى مواجهات بين الشعوب المضطهَدة، وتحرفها عن محاربة أسس النظام القائم بشكل جماعي، وربما تؤدي إلى حرب أهلية وانهيار اجتماعي.
ثالثًا، تؤثر الحرب سلبًا على التطور المستقبلي لفاعلية الشعوب المضطهَدة في إيران والشرق الأوسط. يحدث هذا من خلال:
- دفع السكان المضطهدين نحو السلبية السياسية بسبب ارتفاع انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي، والقمع السياسي، والملاحقات الأمنية.
- تغذية القومية وخطابات العظمة الوطنية، وبالتالي تعزيز العنصرية وكراهية الأجانب، من خلال تعزيز الخوف الواسع النطاق ومشاعر النقص والعجز.
- تعزيز الأصولية الإسلامية، وتقديمها كإسلام مقابل اليهودية.
- تضخيم معاداة السامية من خلال الكشف عن جانب شديد من الظلم العالمي المعاصر فيما يتعلق بالسلطة والممارسات غير الخاضعة للرقابة للدولة الإسرائيلية. وذلك لأن إسرائيل تدفع بسياساتها العدوانية واللا إنسانية تحت غطاء تمثيل يهود العالم، وتتصرف خارج الأعراف والرادع بدعم غير مشروط من القوى العالمية. في النهاية، يضعف غزو إسرائيل لإيران، رغم ستاره من الصراعات الإقليمية والأيديولوجية، عمليات تشكل الوعي الطبقي والوعي والفاعلية المناهضة للرأسمالية.
نظرًا لأن هذا التحليل يخاطب بشكل أساسي الرفاق في الشرق الأوسط، سنفحص الآن التطورات الحديثة في النقاشات والممارسات اليسارية فيما يتعلق بالتدخل السياسي في المنطقة. هدفنا هو إبراز التحديات الداخلية داخل اليسار الشرقي الأوسطي التي تعيق تطوير استراتيجية أممية بديلة. من خلال التحليل النقدي لمنهج سائد (ممثل في مقال إيمان [قانجي](https://akhbar-rooz.com/1404/03/28/20461/))، نجادل أن هذا المنظور اليساري السائد قد شتت وأضعف القوى السياسية اليسارية في المنطقة، وبالتالي أعاق التقدم. لتقديم الوضوح، نحدد أولاً منظورنا الخاص، الذي نسميه “الطريق الثالث”.
من وجهة نظرنا، تنشأ الصراعات والاستقطابات السياسية الحديثة داخل اليسار الإيراني والشرق أوسطي الأوسع [۱۲] إلى حد كبير من عدة غموض وتحديات مفاهيمية:
- الطبيعة المتشابكة للرأسمالية الوطنية الاستبدادية مع العلاقات الرأسمالية العالمية.
- طبيعة ووظائف العلاقات الإمبريالية داخل الرأسمالية المعاصرة في الشرق الأوسط.
- كيفية محاربة العلاقات الاستبدادية والاستغلالية في نفس الوقت مع مواجهة الهيمنة الإمبريالية.
- كيفية معالجة جرائم ومخاطر التوسع الاستعماري الصهيوني بشكل فعال.
على مستوى ملموس وتاريخي، يعكس التباين والاستقطاب الواسع بين اليسار الشرقي الأوسطي التناقضات الهيكلية للنظام العالمي. في العالم المعاصر، تتطلب إعادة إنتاج تراكم رأس المال – المحرك الأساسي للنظام المهيمن – قمع الجماهير المضطهَدة لتقييد فاعليتها وتغذية دورات التراكم العسكري. تتطلب هذه العملية إعادة إنتاج هياكل وآليات السلطة الإمبريالية على المستويين الإقليمي والوطني، بشكل أساسي من خلال توطيد سلطات استبدادية تعتمد على العسكرة والاستبداد. في الوقت نفسه، تظهر الصراعات السائلة ولكن الحتمية للمصلحة بين مراكز الإمبريالية كتصدعات داخل الدول الرأسمالية الأساسية أو كحروب بالوكالة إقليمية، متأثرة بعوامل تاريخية وجيوسياسية ملموسة [۱۳]، بما في ذلك الانقسامات الوطنية والدينية والسياسية. يتم تشكيل أكثر التعبيرات وضوحًا لهذه التناقضات من خلال آليات سلطة العلاقات الإمبريالية، التي تتأثر هي نفسها بسيولة وديناميكية المصالح بين مراكز الرأسمالية الأساسية.
في مثل هذا الموقف المعقد، غالبًا ما تؤكد ضرورات إعادة إنتاج النظام العالمي على الصراعات بين الفاعلين الوطنيين والأزمات الإقليمية، بدلاً من النظام المنظومي الذي يشكل هذه الصراعات ويستفيد منها في النهاية. بعبارة أخرى، تخفي الظواهر السطحية الأسباب الجذرية الكامنة. ينطبق هذا مباشرة على أدوار كل من دولتي إسرائيل وإيران وصداماتهما المستمرة في تشكيل النظام الشرقي الأوسطي الحالي. لذلك، فإن مهمتنا السياسية والفكرية الصعبة هي تحديد النواة الإمبريالية المشتركة لوظائفهما التي تبدو متناقضة، حيث تخفي الأشكال الظاهرة لهذه الصراعات القرابة الأساسية للأنظمة السياسية التي تديرها [۱۴]. لنحو نصف قرن، اعتمد تقدم الآلة العسكرية الصناعية في الشرق الأوسط إلى حد كبير على محركين أساسيين: النظام الإسرائيلي، القائم على الأيديولوجية الصهيونية؛ والنظام الإسلامي، المتجذر في تفسير ملتوٍ للإسلام السياسي أو الأصولية الشيعية. على الرغم من أن هذه الدول قد بررت نهجها بأيديولوجيات مختلفة وواجهت بعضها البعض بشكل متزايد على مدى العقود الأربعة الماضية، إلا أن أيديولوجياتها أو صراعاتها وحدها لا تفسر طبيعتها التاريخية أو الحرب الأخيرة بشكل كامل [۱۵].
من المفهوم أن العديد من التيارات اليسارية في الشرق الأوسط تؤكد على العدوان والاضطهاد غير المنضبطين لإسرائيل والصهيونية، إلى جانب القضية الفلسطينية غير المحلولة. بالتأكيد تؤكد حرب غزة وغزو إسرائيل لإيران على هذا القلق. ومع ذلك، تنشأ مشكلة سياسية عندما نحاول الانتقال من هذا القلق المشروع إلى استراتيجية مناهضة للإمبريالية وثورية شاملة للشرق الأوسط. إذا كان من المفترض أن تكون هذه الاستراتيجية أكثر من مجرد استقامة أخلاقية أو تعبيرات عن الغضب الأخلاقي – البارزة في المناهج اليسارية – فيجب أن نوضح كيف ترتبط مشكلة/نضال فلسطين ارتباطًا عميقًا وماديًا بالمشاكل/النضالات المشتركة التي تواجهها/تنفذها جميع مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط. يتطلب هذا شرح كيفية توزيع وارتباط الآليات التي تسببت تاريخيًا في معاناة الفلسطينيين واستمرارها عبر المنطقة وعالميًا.
هنا، التحول الضروري هو من خصوصية الاضطهاد المحدد الذي تجسده الدولة الإسرائيلية إلى عالمية علاقات الظلم والمعاناة الإمبريالية – المشتركة والمنتشرة. لتحقيق هذا، فإن منهج تضامن شامل ضروري، وليس خصوصانيًا. [۱۶] هذا المنظور يرى أن التمييز بين النظرية والاستراتيجية لا ينفي حقيقة أن قوة أو ضعف استراتيجية يعتمد في النهاية على أساسها النظري. لكي يعبر الإيرانيون وشعوب الشرق الأوسط الأخرى عن تضامن حقيقي مع الفلسطينيين، فإن مجرد تعريف إسرائيل كعدو مشترك غير كافٍ. بدلاً من ذلك، يجب القول والاعتراف على نطاق واسع بأن جميع الدول الإقليمية تخدم وتعتمد على علاقات تشارك فيها إسرائيل، مما يجعلها متواطئة، بطريقتها الخاصة، في خلق واقع الشرق الأوسط الجهنمي المعاصر، وإن بدرجات متفاوتة.
لأفهامنا، *الطريق الثالث*، على عكس التفسيرات السطحية أو المشوهة، لا يساوي بين الأدوار التدميرية لدول الشرق الأوسط في إدامة هذا “الجحيم”، ولا يعتمد على تسلسلات هرمية مقارنة للشر. هدفه الأساسي هو فضح الجذور المشتركة للشر والظلم والآليات المتشابكة لإعادة إنتاجهما عبر المنطقة، وبالتالي التأكيد على الضرورة الاستراتيجية وإمكانية النضالات الموحدة. على سبيل المثال، بينما عززت الدولة الإسرائيلية الاستعمارية، المدعومة من القوى الإمبريالية الغربية، العسكرة والدمار في الشرق الأوسط بإفلات من العقاب، مسببة مآسي هائلة، فقد تصرفت **الجمهورية الإسلامية** بشكل مماثل كقوة شبه إمبريالية وفاعل إقليمي رجعي بوظائف مماثلة، وإن كان أحيانًا في مجالات مختلفة ودرجات متفاوتة. النقطة الحاسمة هي أن هاتين الدولتين لم تعززا باستمرار أدوار ووظائف بعضهما البعض فحسب، بل اعتمدت عملياتهما المستمرة بشكل أساسي على بعضهما البعض.
يترك تجاهل هذه الحقيقة حتماً مكانًا لتفسيرات مناهضة للإمبريالية ممركزة حول الدولة أو “معسكرية” (على سبيل المثال، تفضيل النهج الجيواستراتيجي الإيراني على الإسرائيلي)، و/أو لمبررات قومية أو دينية – بغض النظر عن مدى تأكيدنا على أن “عدائنا للجمهورية الإسلامية [أو إسرائيل] لا يحتاج إلى دليل”. [۱۷] إحدى مهامنا الاستراتيجية، التي تهدف إلى كسر الجمود في النضالات المناهضة للرأسمالية والإمبريالية في الشرق الأوسط، هي إنهاء الاحتكار الكارثي للـ **الجمهورية الإسلامية** وحلفائها على سرديات مناهضة الإمبريالية ومناهضة الصهيونية في الشرق الأوسط [۱۸]. لا يمكن لضخامة وجسامة جرائم إسرائيل غير الخاضعة للرقابة وحدها أن تبرر أو تحدد معنى وآفاق التضامن الأممي مع المقاومة الفلسطينية عند فصلها عن التجارب المعيشية الأوسع للاضطهاد عبر المنطقة. يميل مثل هذا التضامن، عمليًا، إلى أن يكون استبعاديًا بطبيعته، وبالتالي استبداديًا، وهشًا، مجرد مدفوع بالغضب الأخلاقي. التناقض الداخلي لهذا المنهج الخصوصاني في التضامن مع فلسطين واضح في كيفية إسكاته أو تجاهله للأدوار التي لعبتها حماس والنظام الإيراني في انحطاط المقاومة الفلسطينية.
يواجه المنهج الخصوصاني اتهامات بـ”اختيار النقاء الأخلاقي”، “الجلوس بين كرسيين”، “مساواة فاعلية إسرائيل بفاعلية حماس”، “تهميش” أو “تقليل” العدوان العسكري الإسرائيلي، “وضع التجارب السياسية والذاتية الخاصة فوق فاعلية الفلسطينيين”، وحتى “التأثر بالإسلاموفوبيا” [۱۹]. ومع ذلك، يظل غير واضح ما هي الميزة الاستراتيجية التي يكتسبها هذا المنهج الخصوصاني لتقدم النضالات الثورية في الشرق الأوسط والمقاومة الفلسطينية من خلال تعزيز تجريد وانفصال الاضطهادات عن سياقها الأوسع. بينما يغطي *الطريق الثالث* العديد من الاهتمامات الأساسية لمنهجه الخصوصاني المنافس – مثل الدفاع عن القضية الفلسطينية، وإبراز الطبيعة غير المتكافئة للهيمنة الصهيونية، وإدانة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، ومعارضة الحروب الإمبريالية، وإدانة الدولة المعتدية – يصر الرفاق الخصوصانيون على إدانة “مطلقة وغير مشروطة” لغزو إسرائيل. [۲۰] يدعون، خلاف ذلك، لن يكون ذلك أخلاقيًا حقيقيًا أو استراتيجيًا فعالاً.
ومع ذلك، فإن ذكر وإدانة الاستراتيجيات والسياسات الجيوسياسية الإيرانية لا تفرض “شرطية” على إدانة ومعارضة الغزو العسكري الإسرائيلي؛ بل تؤكد على العلاقات المتشابكة للهيمنة والاضطهاد في الشرق الأوسط والحاجة لموقف مستقل في أوقات الحرب والأزمات. يثير هذا السؤال حول ما الذي يهدف المنهج الخصوصاني إلى تحقيقه من خلال هذا التأكيد على الانفصال. نفهم أن هذا المنهج يسعى ضمنيًا أو صراحةً إلى تأجيل معالجة النظام الإيراني للتركيز على فاعل يُنظر إليه على أنه أكثر أهمية أو أمرًا عاجلاً. وبالتالي، سيعلق هذا المنهج حتما النضال ضد آليات الظلم والقمع للـ **الجمهورية الإسلامية**، والتي ستتصاعد بلا شك خلال زمن الحرب. غالبًا ما يشير تبريرهم لهذا التجريد إلى إلحاح أو خطورة الوضع الحربي الحالي في غزة وإيران. ومع ذلك، لا يوضحون كيف يحشد هذا التجريد القوى بشكل فعال لإنهاء الحرب والفظائع فورًا، ولا يشرحون لماذا ستُعاق مثل هذه القدرة من خلال المنهج الشامل، الذي يعزز ربط النضالات عبر المنطقة.
يستشهد بعض دعاة الخصوصية بخطر “الحرب الأهلية” والانهيار الاجتماعي في إيران كسبب لتأجيل النضالات ضد النظام الإيراني خلال زمن الحرب، مع التركيز على العدوان الصهيوني والإمبريالي. بينما ليس مثل هذا السيناريو الكارثي مستحيلاً، فإن هذه الحجة تعني أنه إذا لم تواجه السلطات الإيرانية ضغوط معارضة جماعية مؤقتًا خلال زمن الحرب، أو إذا ركزت الاحتجاجات الدولية فقط على إسرائيل، فقد يكون هناك استعداد أكبر بين الحكام الإسرائيليين والإيرانيين، أو القوى العالمية، لمنع حرب أهلية في إيران أو تحولها إلى “أرض محروقة” [۲۱].
في الواقع، المنهج الذي نصفه بشكل نقدي – على عكس ادعاءاته الخاصة – لا يستند إلى إعطاء الأولوية للاعتبارات الاستراتيجية على المخاوف النظرية. بدلاً من ذلك، يدفعه في المقام الأول الضرورة للرد بشكل دفاعي ضد التشويهات المنهجية والواسعة النطاق من قبل الدول الغربية والتيارات والإعلام السائدة. وبالتالي فإن “أمله الاستراتيجي” مبني على شرعية التحذيرات الأخلاقية التي يصدرها. لكي تكون فعالة سياسيًا، يجب أن يعمل مثل هذه المنهج في معارضة دائمة للخطابات والمزاعم السائدة، موضعًا نفسه لتجنب أي تداخل مع السرديات المهيمنة. ومع ذلك، نظرًا لأن بعض التداخل بين المزاعم المتعارضة لا مفر منه معرفيًا، غالبًا ما تتطلب هذه الاستراتيجية تحولًا مستمرًا نحو النفي الصريح لمزاعم الخصوم واقتراح مزاعم مضادة. القضية الحاسمة، مع ذلك، هي كيفية تفسير هذا التداخل – ليس كإنكار تكتيكي أو صمت أخلاقي، ولكن كجزء متأصل من عملية التفسير.
أخيرًا، لا يمكن للحجة القائلة بأن المعارضة الواسعة لغزو الناتو للعراق عام ۲۰۰۳ نجحت فقط عن طريق وضع الاختلافات الأيديولوجية والسياسية جانبًا أن تبرر مثل هذه الوحدة للنضالات المناهضة للحرب والرأسمالية الحالية. وذلك لأن:
- أدى تجاهل الأسس الاستراتيجية لبعض الصراعات الأيديولوجية في ذلك الوقت، أو تجاوزها براغماتيًا، تاريخيًا إلى ظهور تيارات يسارية زائفة مناهضة للإمبريالية على مدى عقود.
- افتقر هذا النوع من التقارب إلى أساس متجذر في التجارب المعيشية الفعلية للشعوب المضطهَدة. وبالتالي، على الرغم من جوانبه الملهمة، فشل في إرساء تقليد منظم واستراتيجي مستدام قادر على مواجهة التقدمات اللاحقة للآلة العسكرية الإمبريالية.
نعترف بأنه، بعد غزو إسرائيل لإيران، يواجه شعب إيران والشرق الأوسط، مع أجيالهم المستقبلية، وضعًا بالغ الخطورة والخطر. ومع ذلك، يجب أن نقبل في النهاية أنه في هذه اللحظة التاريخية المأساوية، لا يوجد طريق بسيط أو مختصر. من المستحيل جني ثمار مادية لم نزرعها أو نزرعها بشكل كافٍ. إذا كان الالتزام بمعارضة معاناة الشعوب المضطهَدة المتصاعدة وتوسعها المستقبلي يتطلب درجة من البراغماتية والمسافة عن المثالية السياسية البعيدة، فيجب أن تعزز هذه البراغماتية التعاون الجماعي والمبادرات لحماية الحياة نفسها ومن خلال ذلك تقوية الفاعلية الجماعية والنقدية/الذاتية للمضطهدين. أي، يجب أن نطور استراتيجيات ومبادرات تمكن الشعوب المضطهَدة من الدفاع عن حياتها ضد القوى والآليات المعادية للحياة، مع تعزيز الأفكار والأسس المادية لـ”التنظيم من القاعدة”.
- مجموعة إعلام رود: بما أن الترجمة الفارسية لهذا المقال نُشرت بعد حوالي أسبوع من غزو إسرائيل لإيران، فإن الترجمة لا تغطي الأحداث التي وقعت بعد ذلك، خاصة الغزو الأمريكي ووقف إطلاق النار اللاحق.
↩︎ - من الواضح أن القطاع من القوى السياسية في الشرق الأوسط الذي تبنى منطق الدول اللاإنساني، ورأى الحرب والذبح طريقًا للتحسين والخلاص، ليس جمهورنا.
↩︎ - فيما يتعلق بالمناقشات بين اليساريين الإيرانيين (وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية)، فإن نسخة مكثفة من هذا المنهج ممثلة في مقال إيمان قانجي:
“ست نقاط عاجلة حول الحرب ضد إيران“
(أخبار روز، ۲۸ خرداد ۱۴۰۴).
متوافقًا مع غرض هذا النص، يتعامل الجزء الأخير من القسم الرابع بشكل نقدي مع مقال قانجي. تقدم لغته الواضحة والنقدية مرجعًا مفيدًا لفحص منهج يساري واسع نسبيًا يهدف هذا المقال إلى انتقاده.
↩︎
***
- نعترف بأن مصطلح “[راه سوم] (*الطريق الثالث*) غامض بسبب مرجعياته المواضيعية المتنوعة وخلفياته المتناقضة داخل الحركة اليسارية والأدب السياسي ذي الصلة. نأمل أن يوضح هذا النص الضرورة والمبرر التاريخي وراء استخدامه.
- تشير بعض التقارير الحديثة إلى أن “الوثائق والأدلة الحساسة بشأن المنشآت النووية والعسكرية الإسرائيلية” كانت مزورة، وأن توفير وصول حكومة إيران إليها كان جزءًا من خطة أمنية للحكومة الإسرائيلية.
- أثناء إعداد هذا المقال، كثفت الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة الجو الأمني والضغوط القضائية الأمنية في إيران. في هذا التوتر الحربي المتزايد، أطلقت الحكومة حملة أمنية لقمع المعارضة، تروج لخطابات مثل “الخيانة للوطن”، “التعاون مع القوى المعادية”، و”التعاون مع الموساد”، بل وأعدمت عدة أشخاص بتهم مثل هذه. في الوقت نفسه، من خلال استدعاء خطاب “ضرورة الوحدة الوطنية” وسط الغزو الخارجي، تسعى الحكومة لشرعنة زيادة التجريم والملاحقة وقمع المعارضة.
- فريدريش ميرتس: “هذا هو العمل القذر الذي تقوم به إسرائيل نيابة عنا جميعًا.”.
- لفهم حجم هذه الانعكاسات المباشرة المروعة، يكفي ذكر أنه، خلافًا لجميع الأعراف الدولية، تقصف إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، مما قد يعرض مناطق شاسعة وكثافات سكانية كبيرة لتسرب الإشعاع والتلوث الكيميائي.
- كان العديد من المنظرين والدعاة الملكيين البارزين مرتبطين سابقًا بالإصلاحيين الحكوميين؛ بعضهم لديه خلفيات أمنية وعسكرية في إيران، وتشير الأدلة إلى روابط وثيقة بين أجزاء من الجهاز العسكري الأمني الإيراني والفصائل الملكية.
- يجب اعتبار ظهور وانتشار شعارات مثل “[نه غزه، نه لبنان، جانم فدای ایران] (*لا غزة، لا لبنان، روحي فداء لإيران*) كمؤشرات ونواتج لهذا السياق.
- على الرغم من ذلك، على مر السنين، استهدف جهاز **الجمهورية الإسلامية** القضائي الأمني بشكل أساسي اليساريين، بما في ذلك النشطاء العمال المستقلين ونشطاء الحركات الاجتماعية التقدمية، بدلاً من الملكيين. هذا يشبه جهاز قمع نظام الشاه، السافاك، الذي سمح للإسلاميين بالعمل في المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية بينما قمع بشدة حتى أدنى علامات النشاط والحركات اليسارية.
- داخل معارضة اليمين الإيراني، عززت بشكل ملحوظ السرديات التي ترحب بغزو إسرائيل كوسيلة لإضعاف الحكومة الإيرانية، مما قد يؤدي إلى سقوطها أو حتى “الخلاص”. يتم الترويج لهذه الآراء على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية وغالبًا ما تُقدم على أنها بديهية.
- تبنت شريحة أصغر من معارضة اليمين الإيراني موقفًا مشابهًا إلى حد ما، وإن كان من منظور قومي.
- على سبيل المثال، مع التدمير والقتل المتزايد الناجم عن غزو إسرائيل لإيران، هناك علامات على أن بعض الجماهير المخدوعة – الذين ألصقوا آمالهم، تحت تأثير الخطابات المهيمنة، على التدخل العسكري الأجنبي “لتحرير إيران” – يدركون الآن المدى الكامل لهذا الوهم.
- تتمحور الاستقطابات الأيديولوجية والسياسية الحالية في الفضاء العام الإيراني بشكل أساسي حول هذه القضايا الخلافية: طبيعة الحكومات الإيرانية والإسرائيلية وعلاقتهما؛ طبيعة الاستبداد والنظام العالمي (أو الإمبريالي)؛ وطريق وجوهر المشروع السياسي التحرري. داخل الفضاء الأيديولوجي والسياسي لليمين الإيراني، تتجلى هذه الاستقطابات عادةً كمناقشات حول القومية وعملية الانتقال السياسي بعيدًا عن **الجمهورية الإسلامية**، مع إعادة إنتاج الانقسام السياسي بين خطابات ومناهج اليمين واليسار في نفس الوقت.
- تنبع هذه الخصائص التاريخية الملموسة بشكل أساسي من إرث التاريخ الوطني والإقليمي للاستعمار والإمبريالية، وعملية تشكيل الدول القومية الحديثة، التي أُدمجت قسراً في النظام الرأسمالي العالمي. لا تزال العديد من دول الجنوب العالمي تحمل تصدعات اجتماعية سياسية متجذرة في تاريخ الهيمنة هذا.
- في التمثيلات الشائعة، يتم تصوير حكومة إيران على أنها نظام استبدادي ورجعي وقمعي؛ يتم تصوير إسرائيل على أنها دولة استعمارية وفصل عنصري. ومع ذلك، فإن العنصر النظامي المشترك الذي يمكن كلا الدولتين من إظهار هذه الصفات اللاإنسانية هو العسكرة (بالمعنى الواسع).
- بشكل أكثر تحديدًا، أدى توازي معين بين مواجهتين تاريخيتين إلى تقدير هذه الاستقطابات داخل إيران والشرق الأوسط مسبقًا: ۱) عقيدة **الجمهورية الإسلامية** الأيديولوجية والاستراتيجية، المعتمدة على معارضة الإمبريالية العالمية، والديمقراطية الغربية، والعلمانية، والدولة الصهيونية – نظرًا لسجلها المعادي للشعب والجمود السياسي – جعلتها جذابة لسرديات ومزاعم وخطاب الدول المعارضة. ۲) استمرار التدخلات والحروب الإمبريالية الكارثية في الشرق الأوسط، إلى جانب التقدم العدواني لإسرائيل المدعوم بالكامل من القوى الغربية، ساهم بشكل غير مباشر في تصور انفصال إيران عن نظام الهيمنة العالمية ومزاعمها المناهضة للإمبريالية. إلى جانب ذلك، منع القمع السياسي والعسكرة المجتمعية تحت **الجمهورية الإسلامية** باستمرار تشكيل الجمعيات والمواجهات وتطور الآراء السياسية، مما أعاق مشاركة اليسار بشكل عام مع المجتمع وبين أنفسهم.
- النزعة السائدة في السياسة اليسارية الحديثة لإعطاء الأولوية للخصوصية، المتجذرة في الاعتراف بالاختلافات، هي نتيجة لتأثير ما بعد البنيوية الواسع النطاق. بينما يعتبر الاعتراف بالاختلافات ضروريًا ومبررًا، لا ينبغي السعي إليه من خلال تجاهل كليّة الواقع الاجتماعي أو من خلال التناقض مع نظرية المعرفة الماركسية.
- انظر مقال إيمان قانجي. ([*ست نقاط عاجلة حول الحرب ضد إيران*](https://akhbar-rooz.com/1404/03/28/20461/)، أخبار روز، ۲۸ خرداد ۱۴۰۴).
- مجموعة روجا (باريس): “[*المرأة، الحياة، الحرية” ضد الحرب – بيان ضد سياسات إسرائيل الإبادة الجماعية والجمهورية الإسلامية القمعية*](https://www.radiozamaneh.com/858158/) – راديو زمانه، ۳۰ خرداد ۱۴۰۴.
- غالبًا ما تكون هذه الاتهامات مصحوبة بتشويهات و/أو كاريكاتير لاستدلال الخصم.
- الخطاب الذي يبرر “الإدانة المطلقة وغير المشروطة لإسرائيل” كمعتدٍ أو محرض على الحرب – بينما يرفض وجهات النظر التي تشير إلى السياق التاريخي لهذا التصعيد، مثل تحريض إيران على الحرب – يتعارض مع المنطق المستخدم سابقًا من قبل نزعات مماثلة. شددت هذه النزعات (بصحة) على الخلفيات التاريخية لعملية حماس في ۷ أكتوبر ضد الدعاية الإسرائيلية والغربية، ومع ذلك يميل الخطاب الحالي للإدانة المطلقة إلى تجاهل مثل هذه الخلفيات.
- بشكل عام، وضعت **الجمهورية الإسلامية** الإيرانية، بعسكرتها الجامحة والمجنونة، وسياساتها الإمبريالية الصغيرة، وإجراءاتها الأمنية القمعية، مسارًا نحو انهيار سياسي حتمي، يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي بأكمله: شكل من سياسة “الأرض المحروقة”. بالمقابل، أظهرت إسرائيل وداعموها العالميون مرارًا – بما في ذلك خلال حرب غزة والإبادة الجماعية التي استمرت ۲۰ شهرًا، وسابقًا في العراق وليبيا وأفغانستان والسودان وسوريا – أن سياسة “الأرض المحروقة” تخدم مصالحهم و”نظام الحرب العالمي” تمامًا.
